نسخة الفيديو النصية
في هذا الفيديو، سنلقي نظرة على الطريقة التي تمكن بها رجل يوناني يدعى إراتوستينيس، كان يعمل عالم رياضيات وعالم فلك وشاعرًا ومنظرًا في مجال الموسيقى وكبير أمناء مكتبة الإسكندرية القديمة في مصر، من إجراء عملية حسابية مميزة بهدف تقدير محيط الأرض منذ أكثر من 200 عام قبل الميلاد. ويعتقد أنه أول شخص على الإطلاق يأتي بطريقة دقيقة نسبيًّا لفعل ذلك. لكن من الصعب للغاية أن نحدد بالضبط مدى دقته. وسوف نشرح السبب أثناء استعراضنا لطريقته.
قرأ إراتوستينيس في أحد كتب مكتبة الإسكندرية عن بئر ماء في مدينة أسوان — الواقعة على مسافة بعيدة جنوب الإسكندرية — حيث كانت المياه تبقى في الظل طوال العام، باستثناء فترة قصيرة في ظهيرة أطول نهار في العام. وصفت إحدى فقرات الكتاب كيف كانت حافة الظل تعبر جانب البئر حتى تضيء أشعة الشمس المياه مباشرة فلا تظهر ظلال.
وهذا دفعه للتفكير في أمرين. الأول هو أنه لا بد أن الشمس كانت متعامدة مباشرة على أسوان كي يحدث هذا، فأشعة الشمس لا بد أن تكون قد سقطت بزوايا قائمة على سطح الأرض. والأمر الثاني هو أنه لم ير قط تلك الحالة من انعدام الظل في الإسكندرية حيث كان يعيش. ففي فترة الظهيرة من أطول نهار في العام هناك، كانت الظلال قصيرة جدًّا لكنها موجودة. حينذاك، افترض أنه في جزء قريب إلى حد ما على كوكب الأرض، لا بد أن تكون كل أشعة الضوء الصادرة عن الشمس متوازية تقريبًا لأن الشمس كانت بعيدة جدًّا.
إذن لا بد أن يكون سطح الأرض منحنيًا حتى تتباين أطوال الظلال في المناطق المختلفة في الوقت نفسه. فإذا كان سطح الأرض منحنيًا على طول امتدادها، فربما تكون كروية. هنا قرر أن يجري تجربة لأخذ بعض القياسات وإجراء بعض الحسابات حتى يتوصل إلى محيط الأرض.
تتباين الروايات في العصر الحاضر حول الطريقة التي قاس بها زاوية أشعة الشمس في الإسكندرية. فيقول البعض إنه استخدم الظل الذي ألقاه برج شاهق، ويقول آخرون إنه استخدم عصا قياس خاصة تسمى شاخص المزولة. لكن في كلتا الحالتين، كانت الطريقة واحدة تقريبًا. الفرق الوحيد هو أن أي أخطاء طفيفة في القياس بالعصا الصغيرة كانت ستؤثر على دقة التقدير النهائية تأثيرًا يفوق الأخطاء المشابهة للقياس عن طريق البرج. لكننا سنعود لذلك الأمر فيما بعد.
لتبسيط الحديث عن طريقته، لنقل إنه استخدم عصًا. رغم أن إراتوستينيس كان من شأنه أن يستخدم حسابات مختلفة بسبب القواعد الرياضية والأساليب المتبعة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، نستطيع حساب قياس زاوية أشعة الشمس من المستوى الرأسي، مستعينين بالمعلومات التي اكتسبناها من حساب المثلثات في المرحلة الثانوية.
لننصب عصًا بوضع رأسي على الأرض، مع التأكد من أنها تقف بزاوية 90 درجة بالضبط على الأرض، ثم لنقس ارتفاعها ℎ وطول الظل 𝑙. هكذا الزاوية 𝜃 بالأعلى ستساوي الدالة العكسية لـ tan لطول الظل مقسومًا على ارتفاع العصا. في الزمن الحالي نستطيع حساب ذلك على الآلة الحاسبة لنحصل على الحل. لكن لم يكن ذلك متاحًا لإراتوستينيس، بطبيعة الحال. وحين أجرى هذه العملية الحسابية، وجد أن 𝜃 تساوي 7.2 درجات تقريبًا.
هيا إذن نضع صورة مكبرة قليلًا لهذه الرسمة ليسهل علينا رؤية ما يحدث. يمكننا أن نرى في الرسم أنه إذا مددنا خطي البئر والعصا لمركز الأرض، فسنجد أن الزاوية التي في مركز الأرض متبادلة مع الزاوية التي قياسها 7.2 درجات. إذن فهي أيضًا تساوي 7.2 درجات.
ذلك معناه أن القوس الذي على سطح الأرض بين البئر والعصا يساوي 7.2 على 360 من دائرة كاملة. يبسط ذلك إلى واحد على 50. إذن المسافة بين العصا والبئر تساوي واحدًا على 50 من محيط الأرض. كل ما كان عليه فعله هو قياس المسافة بين البئر والعصا، وضرب الناتج في 50. وهكذا أصبح لديه رقم تقديري لمحيط الأرض.
كانت الغلوة هي وحدة الطول المستخدمة لقياس المسافة بين المدن في ذلك الوقت، وكانت تساوي طول الإستاد الرياضي اليوناني القياسي. كانت الغلوة الواحدة تساوي 600 قدم يونانية. كان إراتوستينيس مشاركًا في عدد من مشاريع المسح الجغرافي التي كان الناس يقيسون فيها المسافات بين المدن في مصر. لذلك استطاع بسهولة أن يستدل على المسافة بين الإسكندرية وأسوان. حيث سجل أنها تساوي 5000 غلوة. ثم اقتصر الأمر على ضرب ذلك العدد في 50 ليعطي الناتج التقديري 250000 غلوة لمحيط الأرض.
والسؤال هو: لأي درجة كان دقيقًا؟ حسنًا، يصعب الفصل في ذلك. فالروايات القائلة بأنه كان دقيقًا لدرجة كبيرة منتشرة للغاية. حسنًا، لا شك أنه كان أدق من عالم الفلك اليوناني بوسيدونيوس، الذي استخدم زاويا النجوم لتقدير محيط الأرض بعد أكثر من 100 عام وجاء بناتج أصغر كثيرًا وأقل دقة. كان حساب بوسيدونيوس التقديري هو الذي استخدمه كريستوفر كولومبوس بعد ذلك بعدة قرون حين انطلق للبحث عن مسار مختلف من أوروبا إلى آسيا ثم رسا على القارة الأمريكية بدلًا من ذلك.
لكن في واقع الأمر، الأرض ليست كروية تمامًا. يمكن وصفها بأنها شبه كرة مفلطحة. إذن فهي مثل الكرة بعض الشيء، لكنها مضغوطة قليلًا عند القطبين — وإن كانت ليست للدرجة المبالغ فيها التي توحي بها رسمتي. نعلم الآن بكل ما لدينا من تقنيات حديثة أن محيط الأرض — حسب الطريقة التي تقيسه بها — يتراوح بين 40008 و40075 كيلومترًا. ولأن إراتوستينيس كان يحاول قياس محيط الأرض من خلال القطبين، كان المحيط الفعلي الذي حاول قياسه قريبًا من 40008 كيلومترات.
الآن، من الصعب تمامًا تفسير ناتج الـ 250000 غلوة الذي أتى به إراتوستينيس وتحويله إلى كيلومترات من أجل المقارنة. وقد كشفت عمليات التنقيب عن الآثار عن أن إستاد الرياضة اليوناني كان له قياسات متفاوتة. فتلك التي لدينا علم بها تتراوح بين 157 مترًا و209 أمتار. وذلك معناه أن المحيط الذي حسبه ربما انخفض إلى 39250 كيلومترًا أو ارتفع إلى 52250 كيلومترًا. يعتقد كثير من الناس الآن أنه ربما يكون قد استخدم امتداد الإستاد الأوليمبي الذي يصل إلى 176.4 مترًا كوحدة قياس، ما من شأنه أن يجعل محيط الأرض 44100 كيلومتر، أي أكثر من المحيط الفعلي بنسبة 10 في المائة.
لكن الأهم من ذلك، شأن جميع دروس الرياضيات السليمة، أن الحل وحده ليس ما يشغلنا. إنما يعنينا الطريقة. قد تأتي بحل عددي دقيق يكاد يكون مثاليًّا لإحدى المسائل. لكن قد يكون دقيقًا بالصدفة فحسب ما دمت استخدمت طريقة غير صحيحة. الأهم هو أن تحصل على الحل الصحيح وتوضح أنك استخدمت طريقة صحيحة ومناسبة في الحصول عليه.
عند النظر إلى طريقة إراتوستينيس وافتراضاته، نكتشف قليلًا من الأمور الثانوية. ومن المهم أن نفهمها قبل أن نتحدث عن مدى دقة حسابه التقديري لمحيط الأرض أو تميزه. حين تضع قيمًا تقريبية وترتكب أخطاء صغيرة، قد يحالفك الحظ أحيانًا وتلغي بعض آثارها بعضًا. وأحيانًا أخرى، لا يحالفك الحظ وتتراكب آثارها لتجعل حلك أكثر خطأ.
أولًا، افترض إراتوستينيس أن الأرض كروية تمامًا. وكما قلنا، هذا ليس صحيحًا تمامًا. هيا نلق نظرة على هذه المقارنة المبالغ فيها بين الأرض إذا كانت كروية وإذا كانت شبه كرة مفلطحة مثلما هي في حقيقة الأمر. يمكنك أن ترى أن هذا المحيط الذي حول القطبين له شكل القطع الناقص. وستظهر الزاوية نفسها في المركز بأجزاء مختلفة الطول من المحيط حسب مدى اقترابك من خط الاستواء أو القطب.
إذا كانت تلك المسافة التي قياسها 5000 غلوة بين المدينتين قريبة من خط الاستواء وضربتها في 50، فأنت بذلك تقدر المحيط بقيمة أكبر من قيمته. لكن إذا كانت هذه المسافة بالقرب من القطبين وضربتها في 50، فإنك ستعطيه قيمة أقل من قيمته. في الواقع، تقع المدينتان عند دائرتي عرض 24.1 درجة و31.2 درجة على نحو تقريبي شمال خط الاستواء. لذا يبدو أننا في المنطقة التي ستؤدي إلى زيادة طفيفة في الحل الذي نبحث عنه.
ثانيًا، لقد افترض أن الشمس تتعامد مباشرة على أسوان في منتصف نهار أطول أيام العام. لكننا نعلم مما توفر لدينا من معلومات حديثة أن المدينة تقع أبعد شمالًا بأقل من نصف درجة عن النقطة التي كانت الشمس ستتعامد عليها مباشرة في مدار السرطان. هذا معناه أنه كان يجب أن يطرح قيمة صغيرة جدًّا من طول الظل في الإسكندرية ليحصل على الفرق في طول الظل بين المدينتين. وكان ذلك سيؤدي به إلى زاوية أصغر قليلًا بين الخط الرأسي وأشعة الشمس. إذن كان يجب أن يضرب 5000 غلوة في عدد أكبر قليلًا من 50. وهذا أدى إلى تقدير أقل من المفترض لمحيط الأرض.
ثالثًا، لقد افترض أن أشعة الشمس كانت متوازية تمامًا، لكنها كانت مائلة لدرجة طفيفة جدًّا. لذا كان الظل الذي قاسه في الإسكندرية أطول قليلًا عنه لو كانت تلك الأشعة متوازية. وكان ذلك ليؤدي إلى تقدير أعلى من المفترض قليلًا للزاوية التي في مركز الأرض، ومن ثم تقدير أقل من المفترض بقليل لمحيط الأرض.
رابعًا، من المحتمل جدًّا أن هذا الرقم المقرب للمسافة بين المدينتين كان غير دقيق وإن كنا لا نعلم إذا كان بالزيادة أم بالنقصان. لذا من الصعب أن نعرف التأثير الذي تركه على الحسابات النهائية.
وأخيرًا، فقد افترض أن الإسكندرية تقع مباشرة شمال أسوان ومن ثم كانتا واقعتين في نظره على المحيط نفسه. لكن في الواقع ثمة فرق ثلاث درجات بين خطي طولهما. ومن خلال تطبيق نظرية فيثاغورس، نستطيع أن نكتشف أن المسافة التي قياسها 5000 غلوة بين المدينتين أكبر من المسافة التي كان يريدها بين خطي الطول بثمانية في المائة. وهذا أدى إلى زيادة في تقدير محيط الأرض.
إذن بوجه عام، كانت طريقة إراتوستينيس صحيحة في الأساس رغم أن بعضًا من قياساته أدت إلى ناتج كبير جدًّا، في حين ألغت بعض القياسات الأخرى بعضًا من هذه الأخطاء من ناحية أخرى، ليتبقى لديه ناتج ربما كان أكبر بإجمالي 10 في المائة في النهاية.
الآن، يعد التفكير في مدى دقة كل جزء من اللغز مع استخدام هذا في تحليل مدى تميز إجابتك النهائية شيئًا مفيدًا للغاية في استخدامنا للرياضيات والهندسة في حياتنا اليومية. لذا فقد كان إراتوستينيس عالمًا بارزًا وكانت محاولته تقدير محيط الأرض عبقرية. لكن يوضح لنا عمله كذلك لماذا ينبغي علينا عدم التركيز كثيرًا على إجابة واحدة فقط. يمكننا كذلك تقييم مدى ثقتنا في تلك الإجابة وفي الحدود العليا والدنيا المعقولة بمعلومية مصدر أخطاء القياسات وأخطاء التقريب التي يحتمل أن نرتكبها خلال عملية الحل.